يرى الكاتب محمد الحاج أن الإبادة الإسرائيلية في غزة لم تتوقف يوماً، وأن ما يُروَّج له كـ"هدنة" ليس سوى كذبة صنعتها وسائل الإعلام البريطانية لتجميل جريمة مستمرة. بعد أكثر من عامين على هجمات 7 أكتوبر، ووسط دمار غزة المتواصل، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن اتفاق "سلام في الشرق الأوسط" خلال حفل في القاهرة في 13 أكتوبر، واصفاً إياه بـ"اليوم التاريخي". لكن بعد أيام فقط، شنّت إسرائيل سلسلة غارات على القطاع قتلت أكثر من مئة فلسطيني، بينهم سبعة وأربعون طفلاً، لتتبدد أوهام الهدوء.
ينقل موقع ميدل إيست آي أن الإعلام البريطاني صوّر المأساة كاختبارٍ لـ"صلابة" الهدنة. فقد وصفت بي بي سي الغارات بأنها "اختبار"، وتبنّت صحف مثل الجارديان والتايمز وسكاي نيوز المصطلح ذاته. بينما روّجت الفايننشال تايمز لفكرة أن الهدنة "هشّة". هكذا صيغ المشهد أمام الرأي العام: سلام مؤقت يتعرض لضغط، لا جريمة مستمرة ضد المدنيين.
لكن الحقيقة على الأرض مغايرة تماماً. العدوان الإسرائيلي لم يتوقف لحظة، بل خفّف وتيرته مؤقتاً، بينما واصلت غزة نزيفها تحت الاحتلال والقهر. رصدت منظمات فلسطينية خلال الأسبوعين الأولين بعد إعلان الهدنة مقتل 94 فلسطينياً، ووقوع 125 انتهاكاً إسرائيلياً، بينها 52 عملية إطلاق نار مباشرة على مدنيين وتسع توغلات عسكرية في مناطق سكنية وخمس وخمسون غارة جوية. ومع ذلك، تجاهلت وسائل الإعلام البريطانية هذه الأرقام وواصلت تقديم رواية السلطة المحتلة.
تنقل الكاتبة الفلسطينية سارة عوض شهادتها: "نجونا من الحرب، لكننا قد لا ننجو من الهدنة، لم يمر يوم بلا ضحايا". تعبيرها يلخّص المفارقة: كيف يمكن لحالة تُقتل فيها العائلات وتُهدم البيوت أن تُسمى "وقف إطلاق نار"؟
في التاسع عشر من أكتوبر، قتلت إسرائيل أحد عشر فرداً من عائلة واحدة في حي الزيتون، بينهم سبعة أطفال، بعد أقل من 24 ساعة على غارات أخرى أودت بحياة أكثر من أربعين فلسطينياً في رفح. رغم ذلك، عنونت بي بي سي تقريرها بـ"إسرائيل تقول إنها ستعود إلى الهدنة بعد الضربات"، كأنّ الجلاد يمنح الضحية إذناً مؤقتاً بالتقاط أنفاسها.
يشير الحاج إلى أن هذا الانحراف المهني ليس جديداً. فالمؤسسات الإعلامية الكبرى، وعلى رأسها بي بي سي، تتبنّى منذ سنوات سردية تبرّئ إسرائيل وتبرر عنفها تحت شعار "محاربة الإرهاب". حتى حين هاجمت القوات الإسرائيلية شاباً من ذوي الإعاقة باستخدام الكلاب، وصفت بي بي سي الحادث بأنه "الموت الوحيد لرجل من غزة مصاب بمتلازمة داون"، في عنوان يُفرغ الجريمة من معناها.
لم تكن بي بي سي وحدها. صحيفة التايمز نشرت تقريراً عن قصف مدرسة تؤوي نازحين فلسطينيين، ثم قالت في الفقرة التالية إن "إسرائيل تريد الحفاظ على الهدنة"، كأن القصف فعل يثبت الرغبة في السلام. هذا التلاعب في اللغة، كما يقول الكاتب، يكشف كيف تحولت الصحافة إلى أداة للتعمية لا للتنوير.
وتكشف الفقرة التالية من المقال عمق التضليل. الخط الفاصل الذي قيل إن إسرائيل ستنسحب إليه داخل غزة صار "منطقة قتل" جديدة. أي فلسطيني يقترب منه يُستهدف بالرصاص، بينما تكتفي سكاي نيوز بنقل بيان الجيش الإسرائيلي: "أطلقنا النار على إرهابيين"، وكأن وصف الضحية يحدده الجلاد نفسه.
يشير الحاج إلى أن هذا الخط الأصفر، الذي يُفترض أن يكون منطقة عازلة، يعكس استمرار الاحتلال بأشكال جديدة. فإسرائيل تحتفظ بالسيطرة على المعابر كافة، بما في ذلك معبر رفح، وتمنع المساعدات عن السكان الجائعين، وتحاصر الأراضي الزراعية ومصادر المياه، في تجسيد واضح لسياسة الاستيطان الزاحف.
وفي حين سمحت اتفاقية الهدنة بدخول 600 شاحنة مساعدات يومياً، لم تدخل سوى أقل من ألف شاحنة خلال ثلاثة أسابيع. تصف منظمات الإغاثة الوضع الإنساني في غزة بأنه "كارثي"، لكن الصحف البريطانية تكتفي بعبارات مثل "إسرائيل تحدّ من المساعدات"، وتُدرجها تحت بند "خلاف"، من دون الإشارة إلى أنها جريمة عقاب جماعي وانتهاك صارخ للقانون الدولي.
يخلص الكاتب إلى أن الإعلام البريطاني مارس "الدعاية عبر الإغفال"، أي التلاعب بالحقائق عبر إخفائها. وبدلاً من مساءلة إسرائيل عن خرق الهدنة وارتكابها جرائم حرب، أعاد إنتاج روايتها الرسمية وغطّى على جرائمها بعبارات تقنية باهتة. بهذه الطريقة، يشارك الإعلام في استمرار الإبادة لا في كشفها.
يؤكد الحاج في ختام مقاله أن الفلسطينيين لا يعرفون شيئاً اسمه "هدنة"، ولا عاشوا يوماً بلا عنف أو حصار. إسرائيل تواصل مشروعها الاستعماري لتجريدهم من الأرض والهوية، بينما تواصل وسائل الإعلام الغربية، وعلى رأسها البريطانية، حراسة هذا المشروع بالتضليل والصمت. فالجريمة لم تتوقف، لكنها غُلفت بأكاذيب تتحدث عن "سلام" لم يولد قط.
https://www.middleeasteye.net/opinion/there-was-never-ceasefire-or-peace-gaza

